الاثنين، 6 أغسطس 2012

خارج اطار مشروع السلام الدائم

البيئة السياسية العالمية اليوم تكشف أن العالم يقع خارج إطار أي مشروع  سلام دائم، واحتمالية الحروب هي الواقعة دائما تحت قلق مستمر من القوى  العظمى وسياستها المتبعة في جرف الدول المأكولة إلى ضفة الحرب، فيغدو سؤال  لماذا لا نريد السلام؟؟ سؤال طبيعي كرد فعل على الواقع السياسي، ولماذا لا  يتم التوقيع على معاهدة عالمية للسلام تقي هذا الكون من صرعات متخمة  بصيرورتها؟

يموت سؤال بإجابته، لكن يولد ألف سؤال معه، بين الكيف و متى ولماذا وماذا سيحدث، تطرق أبواب أذهاننا يومياً مئات الرغبات ومئات الأحلام والمساعي لهكذا حلم نرى في تحقيقه إشباعاً وارتواء في الصومال وناطحات سحاب وشوارع معبدة في العراق ووطناً عربياً واحداً في فلسطين ورؤساء وحكاماً عادلين، نرى انعكاسات حلم طغى عليه السلم والحب والرأفة، وضحكات طفولة ترسم بظلالها الحيطان.
   ذلك الحلم الذي قدم لنا الفيلسوف كانط مقدمته ليصبح حقيقة، لم يكن مشروع كانط سياسيا فحسب بل هو مشروع أخلاقي إنساني تأخذ فيه الأخلاق النصيب الأكبر حينما يردد أن السياسة تقول كونوا حكماء كالحيّات   ، وودعاء كالحمائم.. لا سلام أبديّ دون سلام ذاتي نفسي، لا سلام دون وداعة الحمام، على الرغم مما قدمه كانط لنا من مشروع الحكومة الجمهورية التي يتميز دستورها بقدرته على تأطير البشرية بالقانون فلا يعد الخُلق السيئ في هذه الحالة مشكلة، وإن كان الإنسان شيطانا بذاته فللقانون القدرة على أن يحكمه ويحفظ حياته وممتلكاته. لكن يبقى الأمن الداخلي النفسي هو اللبنة الأولى لبناء سلام حقيقي، سلام بقلب طاهر وروح سمحة تغلفها الإنسانية، وفضيلة تُتخذ كتطبيق أخلاقي لنا.
فإذا كان مشروع كانط مشروعا أخلاقيا سياسيا ناجحا، لماذا لا تطبق بنود كانط في مشروعه نحو السلام الدائم بسهولة؟! ما تحوي هذه البنود التي تجعلها بنودا عصية التحقيق؟!
لربما تكون غير واقعية أو لا تخدم السلام نفسه، لربما هي تخدم حقبة زمنية لا غير، أو ربما يشكك البعض في مصداقية هذه البنود باعتبار أن كانط لم يخرج خارج إطار (بيتنبورغ) مدينة سكناه طوال حياته، ولا يمتلك الخبرة السياسية الكافية التي تؤهله لكتابة مشروع سياسي بهذا الأهمية، لكن مع كل الأسف نقول إن بنود كانط هي بنود تعالت حتى على المثالية والطوبائية واشتقت بقرائتها من تاريخ حكيم للسياسة، وهذا ما فعله كانط ، فببساطة هي بنود قابلة للتطبيق وشرعية وليست قابلة للانتقاد.
لكن لنقل إنها تستصعب من قبل السياسة بذاتها، لأن السياسة تعني الحرب كما تتمثل عند كانط بالحالة الطبيعية، وهذا ما جعله يدون بنوده الستة كإطار محكم الزواية لتأطير الحرب وإزالتها بإنشاء السلام إنشاءً، فتنوعت بنوده بين أن تكون الهدنة معاهدة لسلام نهائي ومؤكد، و إنهاء سيطرة دولة على دولة أخرى بهدف الإرث أو الاتفاقيات بين الدول، و يمنع إقراض الأموال بين الدول أو الجيوش لغرض النزاعات والحروب كأن المواطنين أشياء يسوغ استخدامها حسب الأهواء، كذلك لا يحق التدخل العسكري في دستور أي دولة ،وهذا ما دعا كانط بدوره  إلى أن يشرط لبند إزالة الجيوش النظامية كحل رئيسي لوقف نزيف الحرب كون الجيش هو اليد المحركة للحروب، وآخر بنود مشروعه الأولية ينص على منع استخدام الطرق غير الشريفة في الحرب التي تفقد الدولتين عن طريقها الثقة ببعضهما البعض.
بنود واقعية، لكنّ بندا واحدا منها يكفي لتحجيم المشروع، فالسياسة العالمية لا تخدمها عملية إزالة الجيوش النظامية، ولا يخدمها إماتة الحروب وتضييق نطاق سيطرتها، ولا يقع في مصلحتها أن يكون السلام سلاما أبديا، فبعض الدول تقتات على الحروب في بناء اقتصادها العالمي وتنشيط تجارتها وصناعتها ، كما قال احد الباحثين العسكريين ((إن هذه الحرب- وكل حرب- إن هي إلا حرب الطعام ))، وهذا ما وضحه ماركس عندما بيّن أن الأصل في النزاعات الحربية المسلحة يكمن في الخلافات الاقتصادية التي ترجع إلى كسب المصالح الاقتصادية، فكل رفاه اقتصادي تنعم به إحدى دول العالم هو قائم على حياة ومآسي وتشريد شعوب أخرى، فليس غريبا أن يقام التقدم الاقتصادي على الحرب، فنجد أن الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية قد استعادت نشاطها الاقتصادي بعد مرحلة الكساد العظيم من خلال إجبار المصانع على إنتاج السلاح ومستلزمات الحرب من دبابات وطائرات وأسلحة، وبذلك بلغ الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي لعام 1938 (84.7) بليون دولار، ولكن بحلول عام 1944 بلغ 210.1 بليون دولار .
هكذا ساعدت الحرب العالمية الثانية على إحياء الاقتصاد الأمريكي من أسوأ أزمة قد واجهتها خلال القرن العشرين، لأن جميع الأهداف قد توجهت نحو الإنتاج أثناء الحرب مما ساعد الولايات المتحدة على صمودها في ظل الاضطرابات التي اجتاحت العالم، ويمكن لجملة جورج هربرت أن تختصر الحديث بقولهِ ((نتيجة الحروب خلق اللصوص ونتيجة السلام قتلهم)).
  وفي محاولة أخرى من كانط في تسهيل أمر السلام بجعله كائنا حيا، فقد سبق له القول بفكرة اتحادية بين الدول العالمية لعقد تحالف سلام يهدف إلى إنهاء الحرب بشكل أبدي، ومما يضمن نجاح هذه الفكرة هي فكرة الاتحاد نفسها التي تضمن حرية الدول المتحالفة في قوانينها وموجبات القوانين، وبالتالي تتشكل دولة الأمم حسب تعبير كانط التي ستشمل بتوسعها جميع دول الأرض.
وعلى الرغم مما حققه التطور السياسي العالمي من إنشاء مركز الأمم المتحدة الذي يمثل فكرة مشابهة لفكرة كانط ، فهذا لم يجعل مشروع السلام مشروعاً أبدياً وأزلياً، والأسباب تتنوع هنا و تعود إلى صلاحيات الأمم المتحدة نفسها والضغوط السياسية التي تسيطر عليها من قبل القوى العالمية العظمى من جهة و خطورة تنفيذ معاهدة عالمية للسلام من جهة أخرى، فإمكانية بقاء الدولة العظمى كقوى مسيطرة في هذه الأرض غير ممكنة في ظله، ففي تحقيق السلام تحقيق الحق لكل دولة للعيش وفق ضوابطها هي، في أمان وحرية في تسيير مواردها وقوانينها وسياستها الداخلية والخارجية ،وبالتالي سيكون التكافؤ السياسي العالمي هو السمة الغالبة ولن يعود هناك ما يمكن تسميته بمركزية السلطة، تلك السلطة السياسية حسب تسمية الفيلسوف فوكو لها، والتي لها دور أساسي في ((إعادة تثبيت دائم لعلاقة القوة، وذلك بنوع من الحرب غير المعلنة أو الصامتة ، تثبيتها في المؤسسات وفي التفاوت الاقتصادي وفي اللغة وفي أجساد البعض))، وهذا ما يجعل المعاهدة العالمية للسلام معاهدة ذات أطر غير خادمة لسياسة وساسة اليوم، ولا تعود بمنفعة اقتصادية أو حضارية لمزاوليها، فيقوم بذلك التوازن السياسي على إعلاء كفة ميزان واحدة بمقابل كفة الدول المستعبدة الأخرى.
  ولا يعتمد الأمر على البعد الاقتصادي فحسب بل يندرج تحته البعد الحضاري والثقافي وحتى الديني مما يؤكد  صعوبة إنشاء سلام دائمي نرغب ونحلم به كما رغب وحلم به كانط يوماً ما، ذلك الحلم الذي وصفته  الشاعرة الأمريكية إيفي مريم بقولها (( أحلم باليوم الذي يأتي فيه طفل ويسأل أمه: ماذا كانت الحرب )).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق